فصل: المجاز والكناية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المعجزة الكبرى القرآن



.المجاز والكناية:

114 - المجاز يعم الاستعارة وغيرها من أنواع المجاز؛ إذ إنَّ المجاز معناه أن ينقل اللفظ من دلالته على المعنى الذي وضع له إلى معنى آخر، ولعلاقه بينهما، مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي، مثل قوله تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ، سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق: 17، 18].
فإن المكان لا يدّعي إنما يدعي من يحلون في هذا المكان، والقرينة الاستحالة، والعلاقة هي المحلية، أطلق المحل وأريد الحال، ومثل قوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ} [البقرة: 19].
والآذان لا تدخلها كل الأصابع، وإنما أريد بعضها، والعلاقة هي الجزئية أطلق اسم الكل وأريد الجزء، وهكذا.
وتختص الاستعارة من بين أنواع المجاز بأنها مجاز علاقته المشابهة بين المعنى الأصلي والمعنى الذي نقل اللفظ إليه، وقد كان التقسيم المنطقي يوجب أن نتكلم في استعارات القرآن بعد الكلام في المجاز ذاته؛ لأنَّ الكلام في العام يسبق الكلام في الخاص؛ إذ إن العام جزء من الخاص، والخاص جزئي والعام كلي، ومن المقررات المنطقية أن كل عام جزء لجزئيه، ويضربون ذلك مثلًا بالحيوان والإنسان، فالإنسان حيوان ناطق، فيتكون من جزءين؛ جزء هو الحيوانية، والثاني النطق بمعنى العقل والإدراك، ووزن الأمور، فالحيوان وهو الكلي جزء من الإنسان، وهو النوع الجزئي.
ولكن عدلنا عن منطق التقسيم في التصنيف إلى تقديم الجزئي على الكلي أو إلى تقديم الاستعارة على عموم المجاز؛ لأن الاستعارة من حيث إنَّ العلاقة فيها المشابهة كانت ضربًا من ضروب التشبيه، دخل فيه المشبه في عموم المشبه به، فكانت المناسبة بينها وبين ما سبقها من تشبيه أقوى من دخولها في عموم المجاز.
وقدمنا الاستعارة لأنها أشهر وأكثر في القرآن، وأكثر تصويرًا لمعاني البيان، والصور البيانية القرآنية فيها أوضح، وقد ضربنا على ذلك الأمثال، وقصر عبد القاهر في كتابه (دلائل الإعجاز) القول على الاستعارة وما يتبعها من تمثيل وضرب للأمثال، فقد قال رضي الله تبارك وتعالى عنه:
وأنا أقتصر هنا على ذكر ما هو أشهر منه - أي: من المجاز - وأظهر، والاسم والشهرة لشيئين الاستعارة والتمثيل، وإنما يكون التمثيل مجازًا إذا جاء على حد الاستعارة.
فالاستعارة أن تريد تشبيه الشيء بالشيء، فتدع أن تفصح بالتشبيه وتظهره وتجيء إلى اسم المشبه به فتعتبره المشبه وتجريه عليه، تريد أن تقول: رأيت رجلًا هو كالأسد في شجاعته وقوة بأسه سواء، فتدع ذلك وتقول: رأيت أسدًا.
وأما التمثيل الذي يكون مجازًا لمجيئك به على حد الاستعارة فمثاله قوله في الرجل يتردَّد في الشيء بين فعله وتركه: أراك تقدّم رجلًا وتؤخِّر أخرى، فالأصل في هذا أراك في ترددك كمن يقدّم رجلًا ويؤخر أخرى، ثم اختصر الكلام، وجعل كأنه يقدم رجلًا ويؤخّر أخرى على الحقيقة.
وكذلك نقول للرجل يعمل في غير معمل: أراك تنفخ في غير فحم، وتخط على الماء، فتجعله في ظاهر الأمر كأنه يخط، والمعنى على أنّك في فعلك كمن يفعل ذلك، ويقول في الرجل يعمل الحيلة حتى يميل صاحبه إلى الشيء قد كان يأباه، ويمتنع منه: ما زال يفتل له في الذروة والغارب، حتى بلغ منه ما أراد، فتجعله بظاهر اللفظ كأنَّه كان من فتل ذروة وغارب، والمعنى على أنه لم يزل يرفق بصاحبه رفقًا يشبّه حاله فيه حال الرجل يجيء إلى البعير الصعب فيحكه، ويفتل الشعر في ذروته وغاربه حتى يسكن ويستأنس، وهو في المعنى مثل الرجل يقول: فلان يقرد فلانًا، يعني به أنه يتلطف له فعل الرجل ينزع القراد من البعير ليلذ لذلك، فيسكن ويثبت في مكانه، حتى يتمكن من أخذه، وهكذا كل كلام رأيتهم قد نحوا فيه هذا التمثيل، ثم لم يفصحوا بذلك، وأخرجوا مخرجه، وإن لم يريدوا تمثيلًا.
وإنَّ الأمثال كلها من قبيل التمثيل، وهو من باب الاستعارة، كما قال عبد القاهر ذلك؛ لأنَّ الاستعارة ذات شعبتين، إحداهما أن تكون في تشبيه شيء بشيء، من غير أداة كتشبيه الرجل بالأسد، وتشبيه حال بحال، وهو التمثيل، وهاتان الشعبتان تجريان في التشبيه الذي يكون بأداة التشبيه، كما تكونان في الاستعارة؛ إذ إنهما متلاقيان في المعنى والاختلاف في طريق الأداء.
ومن الاستعارة التمثيلية ظهرت الأمثال التي تعد من جوامع الكلم، فهي ليست إلا تشبيه حال بحال، فهي تشبيه حال مضربها بحال موردها، تقول العرب: (الصيف ضعيف اللبن) فموردها أنَّ شيخًا طلب يد فتاة فردتها لكبر سنّه، وكان الزمان صيفًا، ثم احتاجت من بعد إلى قدر من اللبن عنده، فقال لها: (الصيف ضيعت اللبن) فصار مثلًا يضرب لمن يرفض أمرًا، ثم يجيء يطلب شيئًا ما كان يحتاج إليه لو لم يرفض.
وهكذا، والأمثال من أبلغ كلام العرب؛ لأنها تؤدي معانيها في أوجز لفظ، وأروع خيال.
115 - وإن عبد القاهر يعد طرق التعبير ثلاثة، الحقيقة، ويدخل فيها التشبيه على طريق علماء البلاغة، وقد بيَّنَّا من قبل أننا نعد الحقيقة ما لا يدخل في عمومها التشبيه، ولا مشاحة في الاصطلاح، والاختلاف لفظي.
والثاني من طرق البيان المجاز، وقد أشرنا إلى القول فيه.
والثالث من الطرق الكناية: ويعرف عبد القاهر الكناية بأنها: أن يريد المتكلم إتيان معنى من المعاني، فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة، ولكن يجيء إلى معنى هو تاليه وردفه في الوجود، فيؤتى به إليه، ويجعله دليلًا عليه، مثال ذلك قولهم طويل النجاد، أي: طويل علاقة السيف. يريدون طويل القامة، وكثير الرماد يعنون كثير القرى، وفي المرأة نثوم الضحى، والمراد أنّها مترفة مخدومة، لها من يكفيها أمرها، فقد أرادوا في هذا كله - كما ترى - معنى، ثم لم يذكروه بلفظه الخاص به، ولكنهم توصلوا إليه بذكر معنى آخر، من شأنه أن يردفه في الوجود، وأن يكون إذا كان، أفلا ترى أنَّ القامة إذا طالت طال النجاد، وإذا كثر القرى كثر رماد القدر، وإذا كانت المرأة مترفة لها من يكفيها أمرها، ردف ذلك أن تنام إلى الضحى.
ويلاحظ في الكناية أنه لا مجاز في المعنى، واللفظ على ظاهره بادي الرأي، ولكن لا يراد ذلك الظاهر، وإنما يراد لازمه وسماه عبد القادر ردافه.
أي: إنه يفهم تبعًا له، واللزوم ليس هو اللزوم العقلي دائمًا، بل قد يكون في بعض الأحوال لزومًا عاديًّا يجوز أن يختلف، فمثلًا طويل النجاد يلزم عقلًا أن يكون طويل القامة، ولكن كثير الرماد لا يلزم لزومًا عقليًّا أن يكون كثير نار القدر، فقد يكون وقود النار لغير القدر، ونئوم الضحى قد تكون لأنها مترفة عندها من يقوم بحاجتها، وقد يكون ذلك كسلًا أو مرضَا. إلى آخره، ولكن الكثير في العادة أن يكون ذلك عن ترف.
وقد ذكرنا في الماضي مكان المجاز، بكل صوره في دلائل الإعجاز، وقد ذكر عبد القاهر مكان الكناية في الكلام البليغ فقال رضي الله عنه: قد أجمع الجميع على أن الكناية أبلغ من الإفصاح، والتعريض أوقع من التصريح، إلَّا أن ذلك وإن كان
معلومًا على الجملة، فإنه لا تطمئن نفس العاقل في كل ما يطلب به العلم حتى يبلغ فيه غايته، وحتى يغلغل الفكر في زواياه، وحتى لا يبقى موقع شبهة، ولا مكان مسألة.
116 - هذا، وإن هذه الطرق البيانية من تشبيه واستعارة وسائر أنواع المجاز، والكناية ليست في ذاتها، بحيث إذا وجدت في أيّ قول كان بليغًا، إنما البلاغة لا بُدَّ أن تكون متحققة ابتداءً في مادة الكلام وفي موضعه، وفي صوره البيانية، وإن هذه طرق تكون جزءًا من بلاغة الكلام البليغ، وليست هي الخاصة التي تجلعه بليغًا، ولو لم يكن ذا موضوع، أو كان موضوعه من سفساف القول ومبتذلها، إنما قد تكون مع أخوات لها في مثل جمالها، وجلال موضوعها.
وقد ذكرنا ذلك في ماضي قولنا في الاستعارة في قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا}، فإنا نجد بلا ريب جمالًا واضحًا في تشبيه شيوع الشيب في الرأس باشتعال النار، ولكن في الحقيقة لا نجد الجمال في هذه الاستعارة وحدها، بل فيها وما معها من نظم، وتآخٍ في الكلمات، وقد بيِّنَ ذلك عبد القاهر في (دلائل الإعجاز)، فقال في بيان أنَّ الجمال والجلال إنما يكون في مجموع القول لا للاستعارة وحدها: إنك ترى الناس إذا ذكروا قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} لم يزيدوا فيه على ذكر الاستعارة، ولم ينسبوا الشرف إلّا إليها ولم يروا للمزية موجبًا سواها، هكذا نرى الأمر في ظاهر كلامهم، وليس الأمر على ذلك، ولا هذا الشرف العظيم، ولا هذه المزية الجليلة، ولا هذه الروعة التي تدخل على النفوس لمجرد الاستعارة، ولكن لأن يسلك بالكلام طريق ما يسند الفعل فيه إلى الشيء، وهو لما هو من سببه، فيرفع به ما يسند إليه، ويؤتى بالذي هو الفعل له من المعنى منصوبًا بعده مبينًا أن ذلك الإسناد، وتلك النسبة إلى ذلك الأول إنما كان من أجل الثاني، ولما بينه وبينه من الاتصال والملابسة؛ كقولهم: طاب زيد نفسًا، وقرَّ عمرو عينًا، وتصبب عرقًا، وكرم أصلًا، وحسن وجهًا، وأشباه ذلك مما نجد الفعل فيه منقولًا إلى ما ذلك الشيء من سببه، وذلك أنَّ نعلم أن اشتعل للشيب في المعنى، وإن كان هو للرأس في اللفظ، كما أن طاب للنفس، وقر للعين، وتصبب للعرق، وإذا أسند إلى ما أسند إليه كان لأنه سلك فيه هذا المسلك، وتوخّى به هذا المذهب، وإن تدع هذا الطريق فيه وتأخذ اللفظ فتسنده إلى الشيب صريحًا، فنقول: اشتعل شيب الرأس، والشيب في الرأس، ثم ننظر هل ذلك الحسن، وهل ترى الروعة التي كنت تراها؟ فإن قلت: فما السبب في أنه كان {اشتعل} إذا استعير للشيب على هذ الوجه كان له الفضل، ولم تأت بالمزية من الوجه الآخر، فما وجه هذه البينونة؟ إنَّ السبب أنه يفيد مع لمعان الشيب في الرأس - الذي هو أصل المعنى - الشمول، وأنه قد شاع فيه، وأخذه من كل نواحيه، وأنه قد استقرَّ به وعمَّ جملته، حتى لم يبق من السواد شيء، أو لم يبق منه إلّا ما لا يعتد به، وهذا ما لا يكون إذا قيل: اشتعل شيب الرأس، أو الشيب في الرأس، بل لا يوجب اللفظ حينئذ أكثر من ظهوره فيه على الجملة.
وقد أجاد عبد القاهر في بيان وجه البلاغة في الاستعارة مع أردافها من مجموع الكلام، وإذا كانت هي في ذاتها تجمل القول، فإن سرَّ الإعجاز فيها وفي مجموع العبارات.
وقد ضرب الإمام عبد القاهر مثلًا آخر مقاربًا لقوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} وهو قوله تعالى: {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا} [القمر: 12] فقال - رضى الله تبارك وتعالى عنه في بيان أنَّ التمييز بعد التعميم ولو من غير استعارة بلاغة معجزة.
ونظير هذا في التنزيل قوله - عز وجل: {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا} التفجير للعيون في المعنى واقع على الأرض في اللفظ كما أسند هناك الاشتعال إلى الرأس، وقد حصل بذلك من معنى الشمول ههنا، وذلك أنه قد أفاد أنَّ الأرض قد صارت كلها عيونًا وأن الماء قد كان يفور من كل مكان منها، ولو أجرى اللفظ على ظاهره فقيل، وفجرنا عيون الأرض، أو العيون في الأرض، لم يفد ذلك ولم يدل عليه، ولكن المفهوم منه أن الماء قد فار من عيون متفرقة في الأرض، وانبجس من أماكن منها.
وهكذا يتبين من ذلك الكلام القيم أننا إن كنا قد ذكرنا التشبيه والمجاز والكناية فليس الإعجاز لها وحدها، بل لها مع مجموع الألفاظ والأسلوب وتناسق العبارات، فمن كل ذلك يتكون إعجاز الذكر الحكيم.